فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وما يترتب على ذلك من الجزاء. شبه ذلك بالطريق المستقيم الذي لا يضل سالكه عن القصد من سيره.
ويجوز أن يراد بـ {الحق} ما يشمل الاعتقاد والأعمال الصالحة ويراد بالطريق المستقيم الدلائل الدالة على الحق وتزييف الباطل فإنها كالصراط المستقيم في إبلاغ متبعها إلى معرفة الحق.
وإعادتهم نداءَ قومهم للاهتمام بما بعد النداء وهو {أجيبوا داعي الله} إلى آخِره لأنه المقصود من توجيه الخطاب إلى قومهم وليس المقصود إعلام قومهم بما لقوا من عجيب الحوادث وإنما كان ذلك توطئة لهذا. ولأن اختلاف الأغراض وتجدّد الغرض مما يقتضي إعادة مثل هذا النداء كما يعيد الخطيب قوله: (أيها الناس) كما وقع في خطبة حجة الوداع.
واستعير {أجيبوا} لمعنى: اعملوا وتقلدوا تشبيهًا للعمل بما في كلام المتكلم بإجابة نداء المنادي كما في الآية: {إلا أن دعوتُكم فاستَجَبْتُم لي} [إبراهيم: 22] أي إلا أن أمرتكم فأطعتموني لأن قومهم لم يدعهم داع إلى شيء. أي أطيعوا ما طلب منكم أن تعملوه.
وداعي الله يجوز أن يكون القرآن لأنه سبق في قولهم: {إنا سمعنا كتابًا أنزل من بعد موسى}.
وأطلق على القرآن {داعي الله} مجازًا لأنه يشتمل على طلب الاهتداء بهدي الله. فشبه ذلك بدعاء إلى الله واشتق منه وصف للقرآن بأنه {داعي الله} على طريقة التّبعيّة وهي تابعة لاستعارة الإجابة لمعنى العمل.
ويجوز أن يكون {داعي الله} محمدًا صلى الله عليه وسلم لأنه يدعوإلى الله بالقرآن.
وعطف {وآمنوا به} على {أجيبوا داعي الله} عطف خاص على عام.
وضمير {به} عائد إلى {الله}. أي وآمنوا بالله. وهو المناسب لتناسق الضمائر مع {يغفر لكم} و{يُجرْكم من عذاب أليم} أو عائد إلى داعي الله. أي آمنوا بما فيه أوآمنوا بما جاء به. وعلى الاحتمالين الأخيرين يقتضي أن هؤلاء الجن مأمورون بالإسلام.
و{مِن} في قوله: {من ذنوبكم} الأظهر أنها للتعليل فتتعلق بفعل {أجيبوا} باعتبار أنه مجاب بفعل {يغفر}. ويجوز أن تكون تبعيضية. أي يغفر لكم بعض ذنوبكم فيكون ذلك احترازًا في الوعد لأنهم لم يتحققوا تفصيل ما يغفر من الذنوب وما لا يغفر إذ كانوا قد سمعوا بعض القرآن ولم يحيطوا بما فيه.
ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد على رأي جماعة ممن يرون زيادة {من} في الإثبات كما تزاد في النفي.
وأما {مِن} التي في قوله: {ويُجِرْكُم من عذاب أليم} فهي لتعدية فعل {يجركم} لأنه يقال: أجاره من ظلم فلان. بمعنى منعه وأبعده.
وحكاية الله هذا عن الجن تقرير لما قالوه فيدل على أن للجن إدراكًا للمعاني وعلى أن ما تدل عليه أدلة العقل من الإلهيات واجب على الجن اعتقاده لأن مناط التكليف بالإلهيات العقلية هو الإدراك. وأنه يجب اعتقاد المدركات إذا توجهت مداركهم إليها أوإذا نبهوا إليها كما دلت عليه قصة إبليس.
وهؤلاء قد نبهوا إليها بصَرْفهم إلى استماع القرآن وهم قد نبَّهوا قومهم إليها بإبلاغ ما سمعوه من القرآن وعلى حسب هذا المعنى يترتب الجزاء بالعقاب كما قال تعالى: {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} [السجدة: 13]. وقال في خطاب الشيطان {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} [ص: 85]. فأما فروع الشريعة فغير لائقة بجنس الجنّ.
وظاهر الآية أن هؤلاء الذين بلغتهم دعوة القرآن مؤاخذون إذا لم يعملوا بها وأنهم يعذبون.
واختلفوا في جزاء الجن على الإحسان فقال أبو حنيفة: ليس للجن ثواب إلا أن يُجَاروا من عذاب النار ثم يقال لهم كونوا ترابًا مثل البهائم. وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والضحاك: كما يجازَون على الإساءة يجازون على الإحسان فيدخلون الجنة.
وحكى الفخر أن مناظرة جرت في هذه المسألة بين أبي حنيفة ومالك ولم أرَه لغيره.
وهذه مسألة لا جدوى لها ولا يجب على المسلم اعتقاد شيء منها سوى أن العالِم إذا مرّت بها الآيات يتعيّن عليه فهمها.
ومعنى {فليس بمُعْجِزِ في الأرض} أنه لا ينجومن عقاب الله على عدم إجابته داعيه. فمفعول {معجز} مقدر دلّ عليه المضاف إليه في قوله: {داعي الله} أي فليس بمعجز الله. وقال في سورة الجن (12) {أن لن نُعْجِز الله في الأرض ولن نُعْجِزه هربًا} وهو نفي لأن يكون يعجز طالبه. أي ناجيًا من قدرة الله عليه.
والكلام كناية عن المؤاخذة بالعقاب.
والمقصود من قوله: {في الأرض} تعميم الجهات فجرى على أسلوب استعمال الكلام العربي وإلا فإن مكان الجن غير معيّن.
و{ليس له من دونه أولياء}. أي لا نَصير ينصره على الله ويحميه منه. فهو نفي أن يكون له سبيل إلى النجاة بالاستعصام بمكان لا تبلغ إليه قدرة الله. ولا بالاحتماء بمن يستطيع حمايته من عقاب الله.
وذكر هذا تعريض للمشركين.
واسم الإشارة في {أولئك في ضلال مبين} للتنبيه على أن مَن هذه حالهم جديرون بما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم لتسبب ما قبل اسم الإشارة فيه كما في قوله: {أولئك على هدى من ربهم} [لقمان: 5].
والظرفية المستفادة من {في ضلال مبين} مجازية لإفادة قوة تلبسهم بالضلال حتى كأنهم في وعاء هو الضلال.
والمبين: الواضح. لأنه ضلال قامت الحجج والأدلة على أنه باطل. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال الشنقيطي:
قوله تعالى:{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمنوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.
هذه الآية يفهم من ظاهرها أن جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه وإجارته من عذاب أليم لا دخوله الجنة. وقد تمسك جماعة من العلماء منهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى بظاهر هذه الآية فقالوا إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة مع أنه جاء في آية أخرى ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة وهي قوله تعالى: {ولمنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} لأنه تعالى بين شمو له للجن والإنس بقوله: {فَبِأَيِّ الاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ويستأنس لهذا بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌّ} لأنه يشير إلى أن في الجنة جنا يطمثون النساء كالأنس والجواب عن هذا أن آية الأحقاف نص فيها على الغفران والإجارة من العذاب ولم يتعرض فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات. واية الرحمن نص فيها على دخولهم الجنة لأنه تعالى قال فيها: {ولمنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} وقد تقرر في الأصو ل أن الموصولات من صيغ العموم فقوله لمن خاف يعم كل خائف مقام ربه ثم صرح بشمو ل ذلك للجن والإنس معا بقوله: {فَبِأَيِّ الاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه أي نعمه على الإنس والجن فلا تعارض بين الآيتين لأن إحداهما بينت ما لم تتعرض له الآخرى ولوسلمنا أن قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} يفهم منه عدم دخولهم الجنة فإنه إنما يدل عليه بالمفهو م وقوله: {ولمنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فبأي الاء ربكما تكذبان} يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق والمنطوق مقدم على المفهو م كما تقرر في الأصو ل ولا يخفى أنا إذا أردنا تحقيق هذا المفهو م المدعى وجدناه معدوما من أصله للإجماع على أن قسمة المفهو م ثنائية. إما أن يكون مفهو م موافقة أو مخالفة ولا ثالث. ولا يدخل هذا المفهو م المدعى في شيء من أقسام المفهو مين أما عدم دخوله في مفهو م الموافقة بقسميه فواضح.
وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهو م المخالفة فلان عدم دخوله في مفهو م الحصر أو العلة أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف واضح فلم يبق من أنواع مفهو م المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهو م الشرط أو اللقب وليس داخلا في واحد منهما فظهر عدم دخوله فيه أصلا. أما وجه توهم دخوله في مفهو م الشرط فلان قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} فعل مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر لا بالجملة قبله كما قيل به وعلى الصحيح الذي هو مذهب الجمهور فتقرير المعنى أجيبوا داعي الله وآمنوا به أن تفعلوا ذلك يغفر لكم فيتوهم في الآية مفهو م هذا الشرط المقدر. والجواب عن هذا أن مفهو م الشرط عند القائل به إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته فمفهو م أن تجيبوا داعي الله وتؤمنوا به يغفر لكم أنهم إن لم يجيبوا داعي الله ولم يؤمنوا به لم يغفر لهم وهو كذلك. أما جزاء الشرط فلا مفهو م له لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة فيذكر بعضها جزاء له فلا يدل على نفي غيره كما لوقلت لشخص مثلا إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع. لأن قطع اليد مرتب أيضا على السرقة كالغرم فكذلك الغفران والإجارة من العذاب ودخول الجنة كلها مرتبة على إجابة داعي الله والآيمان به فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض ثم بين في موضع آخر وهذا لا إشكال فيه. وأما وجه توهم دخوله في مفهو م اللقب فلان اللقب في اصطلاح الأصو ليين هو ما لم يكن انتظام الكلام العربي دونه أعني المسند إليه سواء كان لقبا أوكنية أواسما أواسم جنس أو غير ذلك وقد أوضحنا اللقب غاية في المائدة.
والجواب عن عدم دخوله في مفهو م اللقب أن الغفران والإجارة من العذاب المدعى بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما وأن تخصيصهما في الآية مسندان لا مسند إليهما بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل ولا يسند إلى الفعل إجماعا ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية. ومفهو م اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسندا إليه لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة كما عللوا به مفهو م الصفة. وأجيب من جهة الجمهور بأن اللقب ذكر ليمكن الحكم لا لتخصيصه بالحكم إذ لا يمكن الإسناد بدون مسند إليه ومما يوضح ذلك أن مفهو م الصفة الذي حمل عليه اللقب عند القائل به إنما هو في المسند إليه لا في المسند لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها فيقصد بعضها بالذكر دون بعض فيختص الحكم بالمذكور.
أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد ولا الأوصاف أصلا وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية فلوحكمت مثلا على الإنسان بأنه حيوان فإن المسند إليه الذي هو الإنسان في هذا المثال يقصد به جميع أفراده لأن كل فرد منها حيوان بخلاف المسند الذي هو الحيوان في هذا المثال فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد. لأنه لوروعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان كالفرس مثلا والحكم بالمباين على المباين باطل إذا كان إيجابيا باتفاق العقلاء وعامة النظار على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الأفراد باعتبار الوجود الخارجي إن كانت خارجية أو الذهني إن كانت حقيقية.
وأما المحمول من حيث هو فلا تراعى فيه الأفراد البتة وإنما يراعى فيه مطلق الماهية ولوسلمنا تسليما جدليا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهو م اللقب فجماهير العلماء على أن مفهو م اللقب لا عبرة به وربما كان اعتباره كفرا كما لواعتبر معتبر مفهو م اللقب في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رسول اللَّهِ} فقال يفهم من مفهو م لقبه أن غير محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن رسول الله فهذا كفر بإجماع المسلمين فالتحقيق أن اعتبار مفهو م اللقب لا دليل عليه شرعا ولا لغة ولا عقلا سواء كان اسم جنس أواسم عين أواسم جمع أو غير ذلك. فقولك جاء زيد لا يفهم منه عدم مجيء عمرو. وقولك رأيت أسدا لا يفهم منه عدم رؤيتك غير الأسد والقول بالفرق بين اسم الجنس فيعتبر واسم العين فلا يعتبر لا يظهر فلا عبرة بقول الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية. ولا بقول ابن خويز منداد وابن القصار من المالكية ولا بقول بعض الحنابلة باعتبار مفهو م اللقب لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به إلا أنه يقول لو لم يكن اللقب مختصا بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة كما علل به مفهو م الصفة لأن الجمهور يقولون ذكر اللقب ليسند إليه وهو واضح لا إشكال فيه. وأشار صاحب مراقي السعود إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصو لي وأنه أضعف المفاهيم بقوله:
أضعفها اللقب وهو ما أبي ** من دونه نظم الكلام العربي

وحاصل فقه هذه المسألة أن الجن مكلفون على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين وهو صريح. قوله تعالى: {لأَمْلأن جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}. وقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاو ونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}. وقوله تعالى: {قال ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ والإنس فِي النَّارِ} إلى غير ذلك من الآيات. وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة ومنشأ الخلاف الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين والظاهر دخولهم الجنة كما بينا والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.تفسير الآيات (33- 35):

قوله تعالى: {أَولم يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ولم يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالوا بَلَى وَرَبِّنَا قال فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أولو العزم مِنَ الرُّسُلِ ولا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أتم سبحانه وتعالى ما اقتضاه مقصود هذه السورة من أصو ل الدين وفروعه والتحذير من سطواته بذكر بعض مثلاته. وختم بضلال من لم يجب الداعي. نبه على أن أوضح الأدلة على إحاطته بالجلال والجمال وقدرته على الأجل المسمى الذي خلق الخلق لأجله ما جلى به مطلع السورة من إبداع الخافقين وما فيهما من الآيات الظاهرة للأذن والعين. فقال مبكتًا لهم على ضلالهم عن إجابة الداعي ومنكرًا عليهم وموبخًا لهم مرشدًا بالعطف على غير مذكور إلى أن التقدير: ألم ير هؤلاء الضلال ما نصبنا في هذه السورة من أعلام الدلائل وواضح الرسائل في المقاصد والوسائل. عاطفًا عليه قوله تعالى ردًا لمقطع السورة بتقرير المعاد على مطلعها المقرر للبدء بخلق الكونين بالحق: {أولم يروا} أي يعلموا علمًا هو في الوضوح كالرؤية {أن الله} ودل على هذا الاسم الأعظم بقوله: {الذي خلق السماوات} على ما احتوت عليه مما يعجز الوصف من العبر {والأرض} على ما اشتملت عليه من الآيات المدركة بالعيان والخبر {ولم يعي} أي يعجز. يقال: عيي بالأمر- إذ لم يهتد لوجه مراده أو عجز عنه ولم يطق إحكامه. قال الزجاج: يقال: عييت بالأمر- إذ لم تعرف وجهه. وأعييت: تعبت. وفي القاموس: وأعيى بالأمر: كل {بخلقهن} أي بسببه فإنه لوحصل له شيء من ذلك لأدى إلى نقصان فيهما أو في إحدهما. وأكد الأنكار المتضمن للنفي بزيادة الجار في حيز (إن) فقال تعالى: {بقادر} أي قدرة عظيمة تامة بليغة {على أن يحيي} أي على سبيل التجديد مستمرًا {الموتى} والأمر فيهم لكونه إعادة و لكونهم جزاء يسيرًا منها ذكر اختراعه أصغر شأنًا وأسهل صنعًا.
ولما كان هذا الاستفهام الإنكاري في معنى النفي. أجابه بقوله تعالى: {بلى} قد علموا أنه قادر على ذلك علمًا هو في إتقانه كالرؤية بالبصر لأنهم يعلمون أنه المخترع لذلك. وأن الإعادة أهون من الابتداء في مجاري عاداتهم. ولكنهم عن ذلك. غافلون لأنهم عنه معرضون. ولما كانوا مع هذه الأدلة الواضحة التي هي أعظم من المشاهدة بالبصر ينكرون ما دلت عليه هذه الصنعة من إحاطة القدرة. علل ذلك مؤكدًا له بقوله مقررًا للقدرة على وجه عام يدخل فيه البعث الذي ذكر أول السورة أنه ما خلق هذا الخلق إلا لأجله ليختم بما بدأ به {إنه على كل شيء} أي هو أهل لأن تتعلق القدرة به {قدير}.